من هو أبو العتاهية:
أبو العتاهية هو إسماعيل بن القاسم بي سويد العيني، ولد ونشأ قرب الكوفة، وسكن بغداد، كان في بدء أمره يبيع الجِرَار، ثم اتصل بالخلفاء - خاصة الرشيد -؛ وعلت مكانته، لكنه زهد في الدنيا، وابتعد عن منادمة الرشيد، وكان قبل ذلك لا يفارقه. وكتب شعراً رقيقاً في ندمه على ما فرط من أمره قال فيه:
إلـهـي لا تعذبني فإنـي =مقـر بالـذي قد كان مـنّي
فـمالـي حيـلة إلاّ رجائي = لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في البرايا =وأنت عليّ ذو فضل ومــنّ
إذا فـكّرت في قدمي عليها =عضضت أناملي وقرعت سني
يظن الناس بي خيرا وإنّـي =لشرّ النّاس إن لم تعف عنّـي
أبو العتاهية وأهل المجون:
أشاع أهل المجون أن أبا العتاهية زنديق، وقد حدَّث الخليل النوشاني قائلاً: أتانا أبو العتاهية إلى منزلنا، فقال زعم الناس أنّني زنديق، والله ما ديني إلاّ التوحيد، فقلنا: قل شيئا نتحدث به عنك، فقال:
ألاّ إنـّنـا كـلـّنـا بائد =وأي بـني آدمٍ خـالد
وبـدؤهمُ كـان من ربّهم =وكـلّ إلـى ربّه عائد
فيا عجبا! كيف يعصى الإله؟! =أم كيـف يجحده الجاحد؟!
ولله فـي كـلّ تحريـكة =عليـنا وتسكينة شاهد
وفـي كلّ شـيء له آية =تـدل علـى أنّه واحد
بعد أن اعتزل أبو العتاهية الخلفاء اعتزل أغراض الشعر الأخرى كذلك؛ فلم يكتب إلاَّ في الزهد، وقد رُوي أن الرّشيد أمره ذات مرّة أن يقول شعرا في الغزل لكنه امتنع، فضربه الرشيد وحبسه وحلف ألا يطلق سراحه إلى أن يقول شيئا في الغزل، ووكّل به أحدا يكتب إليه ما سمع، فقال أبو العتاهية:
أما والله إنّ الظـلم لـؤم =ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي =وعند الله تجـتمع الخصوم
قيل: فلما بلغ ذلك الرشيد بكى وأمر بإخلاء سبيله.
فسلفته الشعرية
من أسس الموعظة الشعرية عند أبي العتاهية أنّه يحقر شأن الدنيا؛ فهي خداعة لا تدوم على حال؛ فما هي إلا زيف وخداع، والعجب أن الناس يغفلون عن الوعد المضروب والأجل المحتوم:
أنلهو وأيـامنـا تذهـب =ونلعب والموت لا يلعـب
والغريب أنّهم يصرفون كل همهم في الإعداد لدار هم عنها راحلون، فيشيّّّدون القصور، ويحشدون فيها أنواع الزينة، ويهيئون لها الفرش، وهم يعلمون أنّهم مفارقوها:
يا بَــانِيَ الدّارِ المعِدََّ لهـا =ماذا عمِلتَ لدَاِركَ الأخرىَ
ومُمَهِّـدَ الفـُرْش الوثيرة لا =تُغْفِلْ فِرَاش الرَّقدة الكبرى
فعليهم أن يحذروا الموت، وما يعقبه من مشاهد القيامة وأهوالها، ثم القرار إما في جنة أو نار:
فلو كان هول الموت لا شيء بعده =لهان علينا الخطب واحتقر الأمر
لكنّه حـشـر ونـشر وجـنـة =ونار وما قد يستطيل به الخبر
الأخلاق في شعر أبي العتاهية
إن أبا العتاهية بعد تطليقه الدنيا صار أقرب إلى شعراء الأخلاق والحكمة، وفي هذا السياق يقول الأستاذ محمد خلف الله: (إنّ شعر أبي العتاهية ذا الصبغة التعليمية أخذ مكانة في تربية الذوق الإسلامي وفي تهذيب الناشئين؛ فهو يحض على التخلق بأشرف العادات، والبذل والإنفاق في وجوه الصدقات، ويدعو الإنسان إلى أن يراعي حق الجوار، وحرمة الذمم، وأن يخفض جناحه لأخيه الإنسان.. اسمع له وهو ينصح ابنه:
اُسْلُكْ بنيّ مناهـج السـادات =وتخـلّـقـن بأشـرف العـادات
لا تلهـينـّك عن معادك لـذة =تـفـنى وتورث دائـم الحسرات
وإذا اتّـسـعت بـرزق ربـك =فاجعلن منه الأجلّ لأوجه الصدقات
وارع الجوار لأهـله مـتبرعا =بقضـاء ما طـلـبوا من الحاجات
واخفض جناحك إن منحت إمارة =وارغـب بنفسك عن ردى اللذات
وفي موضع آخر ينصحه بعدم الغيبة، وهي خلة قبيحة مذمومة؛ إذ شر الأخِلاَّء من يُظهر لك المودة إظهار الصديق الودود، والمخلص الغيور، فإذا توارى عنك نهش لحمك، وبرى عرضك مثل بري القلم:
وشر الأخلاء من لم يزل =يعاتب طورا، وطورا يذم
يريك النصيحة عند اللقاء = ويبريك في السر بري القلم
كما أن أبا العتاهية يوصي بإحسان معاملة الآخرين، والصبر عليهم، وقبولهم على علاَّتهم:
إنّ في صحة الإخاء من الناس =وفي صحـة الوفـاء لقلـة
فألبس الناس ما استطعت على =الصبر وإلا لم تستقم لك خلّة
عش وحيدا إن كنت لا تقبل العذر =وإن كنـت لا تجاوز زلـّة
وفي موضع آخر يحذر من خطورة الحسد؛ فيقول:
من لزم الحقد لم يزل كمدا = تخرقه في بحورها الكرب
وتارة أخرى يُمَجِّدُ الأخلاق الفاضلة، ويذم أضادها فيقول:
ما أكرم الصبر! وما أحسـ = ـن الصدق! وما أزينه للفتى!
الخـرق شؤم، والتقى جنّة =والرفـق يمن، والقنوع غنى
نافس إذا نافست في حكمة =آخ إذا أخـيت أهل الـتقى.
كما يحض على الصدقة والنفقة، فيقول:
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه =تملكه المال الذي هو مالكـه
ألا إن مالي الذي أنا مـنفــق =وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنـت ذا مال فبادر به الذي =يحـق وإلا استهلـكته مهالكه
وهكذا ينطلق أبو العتاهية بإيمانه المطلق، وبكلماته الصادقة يندّد بمطامع الإنسان وحرصه على الدنيا:
ألا إلى الله تصير الأمـور =وما أنتِ يا دنياي إلا غرور
نحن بنو الأرض وسكانها =منها خلقنا وإليها نصـيـر
أبو العتاهية والاقتباس من القرآن:
إن كثيراً من الصور الشعرية لأبي العتاهية مقتبسة من القرآن الكريم.. اسمع قوله تعالى: (ألا إلى الله تصير الأمور)، و(منها خلقناكم، وفيها نعيدكم)، واقرأ قول أبي العتاهية المنقول فوق هذه الأسطر مباشرة، وانظر تشابه الصور، ثم اسمع قول أبي العتاهية:
ويرزق الإنسان من حيث لا =يرجو وأحيانا يضل الرجا
ألا يتبادر لذهنك قوله سبحانه تعالى : (ويرزقه من حيث لا يحتسب).
أو اسمع قول أبي العتاهية: =من لم يوال الله والرّسل التي
نصحت له فوليّه الطاغوت
وتذكر قوله تعالى: (الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت).
أو اسمع قول أبي العتاهية:
إن أنت لم تهدنا ضللنا = يا رب إن الهدى لهداكا
وانظر قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى).
أو قول أبي العتاهية:
ليت شعري فإنني لست أدري =أي يوم يكون آخر عمري
وبأي بلاد تقبـض روحـي =وبأي البلاد يحفـر قبري
وطالع قوله تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت).
خلاصة:
إن ديوان أبي العتاهية ينضح عذوبة وصفاءا، ويمتلئ وضاءة وبهاءا، على الرغم من أنه في غرض واحد من أغراض الشعر وهو الزهد والحكمة؛ مما يؤكد قوة شاعريته، وسمو شخصيته في عصر تعاظمت فيه تيارات الفوضى السلوكية، وتوجهات المنكرات الأخلاقية، ألا رحمه الله، وأحسن إليه.